لئن كان حكم الايالة التونسية قد استقر بيد الأسرة الحسينية منذ 1705 (1)، فإن
السلطة الفعلية ، على الأرض، قد انتقلت تدريجيا إلى يد المماليك الذين اضطلعوا بدور مركزي في إدارة الشأن السياسي والشأن الاقتصادي بالبلاد. فمن هم المماليك؟ وما هي السمات الرئيسية لسياساتهم فكرا وممارسة؟
المماليك هم عبيد من أسرى القرصنة البحرية أو ممن جرى اقتناؤهم من أسواق العبيد بإسطنبول أو تونس أو غيرهما من أسواق العبيد، اصطفاهم البايات لخدمتهم. وهم ينحدرون من أصول إيطالية ويونانية وجيورجية وشركسية، تربوا في بلاط البايات الحسينيين وارتقوا بصفة تدريجية في سلم الوظائف الإدارية والمهام السياسية حتى وصل بهم الأمر إلى بسط سلطتهم المطلقة على سكان البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر الذي توجوه بإعلان إفلاس البلاد سنة 1869 ثم تسليمها إلى الاستعمار الفرنسي سنة 1881. والمشهور أن المنافسة بين الماليك الشراكسة والقرج من جهة والمماليك اليونانيين كانت شديدة ، ذلك أن ” المماليك الجراكسة والقرج يكرهون المماليك اليونان لمبالغتهم في الملق لأسيادهم ودناءة طباعهم… ويرون فضلهم على اليونان لكونهم عريقين في الاسلام وأثمانهم أضعاف أثمان غيرهم..”(2). ولتعزيز سلطتهم، تحالف المماليك مع أعيان الحواضر الكبرى وخاصة تونس العاصمة ، ” البلدية” وعلماء الدين وشيوخ الطرق الدينية و”الأشراف” أو من كانوا ينسبون أنفسهم إلى “آل البيت”. أما في تونس العميقة فقد ربطوا صلات وثيقة قوامها المنفعة المتبادلة مع أعيان القبائل ، حيث سخروهم لخدمة مصالحهم مقابل تمكينهم من سلطة مطلقة على منظوريهم تبيح لهم السلب والابتزاز، ومثلوا ذراعهم الطولى التي لا ترحم فقر الفقراء ولا حاجة المحتاجين. كان سلاحهم في ذلك اعتماد سياسة “فرق تسد” لا فقط بين سكان المدن وسكان البوادي في المناطق الداخلية وبين أعيان القبائل وسائر أفرادها وبين القبائل في مجملها، بل بلغ بهم الأمر حد استثارة الأخ على أخيه في صورة نادرة لما بلغه الأهالي من هوان في تلك الفترة، تشهد عـــلى ذلك هذه الرسالة الموجهة من أحمــد بن عمار شيخ “بيت الشريعة” بالجريد إلى الوزير الأكبر مصطفى خزندار بتاريخ 18 رجب 1280 ( 29 ديسمبر 1863) حيث يشكو أخاه ويحرّض على الاقتصاص منه بسبب امتناعه عن دفع المجبى وتزعّمه للرافضين لهذا الأمر:”…وبعد أولا سيدي ملازمين لكم بالدعاء الصالح في بيت الشريعة عقب كل درس وصلات…ويليه سيدي قد كنت أخبرتكم عن أناس لم يمتثلوا لخلاص مال الإعانة مفسدين عني، منهم أخونا ومعه تسعة أنفار الفسايدية ومعهم أناس متبعين لفسادهم وممتنعين من الإعطاء لمال الإعانة…كل ذلك من محمد بن عمار أخونا هو الذي يفسد فيهم…ومحمد هو الذي يخاصم عنهم. فبقت هذه الطائفة ممتنعين من الإعانة. أخونا هو الذي يفسد فيهم ويغويهم ولم يتركهم نخلصوا منهم الإعانة. هذا كله من أخونا محمد بن عمار. المطلوب من السيادة التعيين إلى محمد بن عمار والطائفة الذين معه…ونهيهم عن الفساد…فها نحن أخبرناكم ونظركم أعلا وأوسع ودمتم في أمان الله وحفظه والسلام.” (3) ومن أكثر المماليك شهرة: مصطفى خوجة ، إسماعيل قائد السبسي ، شاكير صاحب الطابع ، يوسف صاحب الطابع ، مصطفى خزندار ، محمد خزندار، خيرالدين باشا، الجنرال رستم، الجنرال حسين….
2. في خصائص الفكر السياسي المملوكي
لقد اتسم تعاطي المماليك مع الشأن التونسي العام الذي ائتمنهم عليه البايات الحسينيون بسمات ترسخت مع الزمن ما حولها إلى ثقافة سياسية / فكر سياسي قائم الذات يحيل على أبشع معاني التهميش والإذلال والطغيان وشتى ضروب الابتزاز والسرقة والنهب والاعتداء في ظل ثقافة هجينة تتبدى من خلال لغة ركيكة وأدأب صفراء وجهل مدقع… ولقد توارثت الطبقة السياسية التونسية على مر العقود هذه الثقافة السياسية واسترشدت بها في تسيير الشأن الوطني. وأهم سمات الثقافة السياسية المملوكية:
– الاستبداد بالسلطة السياسية ضمن حلقة ضيقة من النخبة المدينية التي تتشكل من الباي وأسرته ومماليكه، وهم غالبا وزراؤه وقادة جيشه وكبار موظفي دولته، والبلدية (4) من كبار التجار وكبار مالكي الأرض والقائمين على الدين حرفة مقابل استبعاد تام للأهالي من المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العامّ إلا من ارتضى دور التابع الأمين مثل عدد من زعماء القبائل وأعيانها وبعض القائمين على الزوايا والطرق الدينية. ويعكس هذا السلوك احتقارا حقيقيا لهؤلاء السكان الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد رعايا يسبحون بحمد البايات ومماليكهم، خلقوا أصلا لخدمة سادتهم لا غير.
– الاستئثار بالثروة والاستحواذ عليها بشتى الأساليب غير المشروعة كالابتزاز والنهب السافر والسرقة الموصوفة بما أفضى إلى بروز “شبكة” من الأثرياء لم ينقطع ثراؤها رغم تغيّر الظروف السياسية مقابل الإبقاء على حالة الحرمان والفقر بين سائر التونسيين خاصة في المناطق الداخلية استنادا إلى مقولة مملوكية خالصة: ” البربري خوذ ماله واقطع رأسه”(5). ولا يخلو تاريخ كل المماليك من عمليات السلب والنهب والسطو على الممتلكات وقد استمرت هذه الميزة لدى النخبة التونسية ولسنا في حاجة لإثبات هذا الأمر والوقائع الدالة على ذلك في تاريخ ما يسمى بالدولة الوطنية متعددة.
– نشر ثقافة هجينة تضرب في الصميم هوية الشعب الأصلية من خلال ضرب لغته الأم عبر تعويضها برطانة هي خليط من اللهجات المتداولة في المنطقة المتوسطية اضافة الى التعريب العشوائي وتحويل الدين الإسلامي إلى مجــــــــــرد طقوس جامدة تفرغه من محتواه الإنساني الشامل، وليس أدل على ما تقدم من ضمور العطاء الفكري التونسي في ظل حكم المماليك.
– الاستقواء بالأجنبي والاحتماء به وقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تأرجح القرار السياسي التونسي بين القنصلين الفرنسي والبريطاني وفقا لمزاج المماليك الذين تسيدوا البلاد ووفقا لأطماعهم وحساباتهم الشخصية، وقد تحوّل الأجنبي لهذا السبب إلى “شريك” في القرار السياسي الوطني.
وفي كل المراحل وفي ظل كل البايات الحسينيين لم يكن للشعب التونسي دور يذكر في الشأن العام وكان مجرد رعية تسمع وتطيع وتنزف دما وعرقا ودموعا لتوفير شتى أنواع الضرائب.
وهكذا ظل الأهالي ، أصيلو البلاد والمناطق الداخلية منها على وجه التحديد – إلا من لهج بمدح الحاكم وارتضى خدمته من زعماء القبائل وأعيانها والقائمين على الزوايا- مبعدين عن الشأن السياسي الذي انفرد به الباي ومماليكه و”البلدية” الموالين له، وكان ذلك مقصد الشعار المرفوع في انتفاضة القبائل سنة 1864 : “لا للمماليك….”. ويكفي للتدليل على ذلك النظر في تركيبة “المجلس الكبير” الذي تشكل على إثر صدور دستور 1861 ، ففي معرض تعليقه على تعيين أعضاء هذا المجلس، يكتب أحمد بن أبي الضياف : ” …ومن غريب الاتفاق أن العشرين رجلا المنتخبين من رجال الدولة لم يكن فيهم من أبنائها ولادة إلا العبد الحقير ( يشير إلى نفسه) والشريف حسين بن عمرالمقرون…كما أنه من الاتفاق أن هؤلاء الرؤساء على المجالس لم يكن فيهم أحد من أبناء المملكة ولادة، بل رؤساء مجلس التحقيق والجنايات ليس فيهم من شروط الانتخاب إلا الوجاهة في هذه الدنيا وليس لهم من العلم إلا الاحساس بالأمور الضرورية….كما أنه من الاتفاق أن أهل المجلس الأكبر لم يكن منهم واحد من أهل العلم.” (6).
3. مرتكزات الفكر السياسي المملوكي
استند هذا السلوك السياسي القائم على استثناء الأهالي – وسكان المناطق الداخلية منهم تحديدا – من إدارة الشأن العام على خلفيتين:
– خلفية استبدادية تتمثل في سيطرة الباي المطلقة ومن يفوضهم من المماليك على الشأن السياسي والإداري عامة في ظل بنية إدارية بدائية تتمثل مهمتها الأساسية في خدمة سلطة الباي وحاشيته من المماليك وبقايا الأتراك عبر تنفيذ قراراته دون مراجعة كما تتمثل في جمع الجباية المجحفة المسلطة على السكان. ولم تجد القوانين والترتيبات التي جرى سنها تحت ضغط القوى الأجنبية مثل قانون عهد الأمان سنة 1857 ودستور 1861 في الحد من هذه السلطة المطلقة، بل إن محمد الصادق باي و وزيره الأكبر المملوك مصطفى خزندار استغلا انتفاضة القبائل سنة 1864 لإيقاف العمل بالدستور وتجميد المجلس الكبير وإنهاء العمل بالنظام العدلي الجديد بتشجيع من القنصل الفرنسي آنذاك. ويورد بن أبي الضياف في معرض الإشارة إلى الحكم المطلق للباي الرد المنفعل من قبل محمد الصادق باي عندما أعلمه بعض عمال الجهات بتعذر استخلاص المجبي في صيغتها الجديدة: ” أنا [محمد الصادق باي] حكمت بالغصب في الخلاص وعلى الخديم الاجتهاد في تنفيذ الأمر، وهؤلاء رعيتي، وهل ثم أحد يسألني في رعيتي؟” ويعلق ين أبي الضياف على هذا القول، ” فانظر الملك المطلق إلى أين يصل” (7).
– أما الخلفية الثانية فيختلط فيها الثقافي بالتاريخي وتكاد تلامس العنصرية وتتمثل في ما يحمله الممـــاليك
من توجس تجاه الأهالي الأصليين يصل حد النقمة والكراهية (8)، وقد اشتهرت عبارة كان يرددها المماليك في حق الأهالي: ” أولاد تونس زقايط لا يصلحو لشيء” (9) ما أفضى بهم إلى السعي إلى عزل الباي عن رعيته ذلك أن التوافق بين الباي والرعية من جهة واعتماد أهل البلاد في إدارة الشأن العام يعنيان انتهاء حظوتهم وما يتمتعون به من نفوذ والعودة بهم إلى دورهم الأصلي: مجرد عبيد وخدم في قصور البايات. إن هذا التوجس من الأهالي يجد جذوره في تاريخ الدولة الحسينية تحديدا، فقد شهدت هذه الدولة حربا أهلية أثارها تمرد علي باشا على عمه حسين بن علي بعد أن خلعه من ولاية العهد وذلك في سنة 1728، وأفضى هذا الصراع على السلطة السياسية في صلب العائلة الحسينية إلى انقسام البلاد بين “الصف الحسيني” : قبائل الهمامة ( سيدي بوزيد وقفصة) وجلاص (القيروان) ونفات ( بئر علي بن خليفة) وأولاد عون( سليانة) المناصر لحسين بن علي، و”الصف الباشي”: قبائل ماجر والفراشيش (القصرين) وأولاد عيار (مكثر) و ورتان (الكاف) وجهة الساحل، المناصر لعلي باشا. وما يعنينا في هذا الأمر هو الدور الذي اضطلعت به القبائل المتمركزة في غرب البلاد في هذا الصراع بما أكد ما عرف عنها من نزوع إلى التمرد على السلطة المركزية واعتبارها “قوى نابذة” لا بد من “خضد شوكتها” بكل الوسائل الممكنة: التفقير المستمر والإذلال الممنهج وبث الفرقة بينها حتى لا تجتمع كلمتها أبدا ذلك أن السلطة المركزية كانت دوما أكبر المتضررين كلما اجتمعت كلمة هذه القبائل ، أوليست انتفاضة 1864 أفضل دليل على ذلك؟ لقد كان هذا السلوك القائم على الظلم والإذلال سياسة الدولة الرسمية تجاه رعاياها، سياسة يؤسس لها في المجالس المغلقة وتبتدع لها المبررات وكان الرأي السائد بين الباي ومماليكه وبقايا العساكر الأتراك ومن والاهم من البلدية ومن رجال الدين ” المحترفين” ” أن العربان إذا كثر مالهم ساء حالهم، وفي ثقل الجباية خضد لشوكتهم وكبح لهم عن العصيان…” (10). والواقع أن القاموس المستعمل آنذاك يزخر بمفردات تكشف عن موقف السلطة المركزية وأعوانها من هذه المجموعات البشرية المنتشرة في غرب البلاد: فهم “عربان” و”أوغاد” و”أوباش” و”عامة” و” فسايدية”( مفسدون) و “من يطلب الرزق بالفتنة” و”أهل الفساد” و”أهل العيب” و” الغوارة” ( القائمون بالغارات) (11)… وهكذا كانت السلطة المركزية – و المماليك تحديدا – تعاملهم معاملة العدو لعدوه ولهذا السبب كان إنهاء سلطة المماليك من المطالب الرئيسية لانتفاضة القبائل التونسية سنة بقيادة علي بن غذاهم الماجري 1864.”…ويقال أنهم طلبوا أن لا تتولى عليهم الموالي من المماليك الأجانب المتجبرين …لأن غالب المماليك وأهل الصراية ( القصر) يخرجون إليهم خروج المالك لعبيده، يرون ما يأخذونه منهم حقا واجبا وما يبقونه بأيديهم تفضلا منهم ويستعينون على ذلك باستمالة أعيانهم بالرهبة تارة وبالرغبة تارة أخرى ويجعلون لهم طعمة كسهم الكلب على المائدة ومن أمثالهم ” الشجرة تحرق بعود منها”…ولا يخطر ببال الرعية الانتصاف من هؤلاء…لأن القوم من المقربين زلفى معايبهم تستر و زلاتهم تغفر” (12).
لقد جمع حكم البايات الحسينيين ومماليكهم بين الاستبداد بالشأن السياسي من جهة وإقصاء الأهالي عامة وسكان تونس الداخلية تحديدا من الممارسة الثقافية والاقتصادية والسياسية. و أفضى هذا السلوك الاستبدادي الاقصائي إلى تفاقم أزمة
البلاد التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و إلى إغراقها في الديون ما
أفضى إلى تركيز “اللجنة المالية الدولية” (13) سنة 1869 كمقدمة للاستعمار الفرنسي
سنة 1881.
ــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
الهوامش
(1) تأسّست الدولة الحسينية سنة 1705 على يد حسين بن علي التركي بعد أن بايعه ” أهل الحل والعقد” في تونس العاصمة لدرء مخاطر الفوضى والاضطراب التي كانت تهدد البلاد، وزالت هذه الدولة سنة 1957 بإعلان النظام الجمهوري.
(2) توفيق البشروش، ربيع العربان، بيت الحكمة 1991، ص 90-91.
(3) عبارة تونسية تشير إلى ساكنة المدن وخاصة العاصمة تونس وهي مشتقة من كلمة البلاد/ البلدة/ البلد أي المدينة أو الحاضرة ولا تزال متداولة إلى اليوم في بعض الجهات. وتحمل هذه العبارة معاني التعالي على بقية مكونات المجتمع التونسي، فالبلدية والأعيان منهم على وجه الخصوص يحتكرون السلطة الدينية والنفوذ الاقتصادي ويتمتعون بالوجاهة الاجتماعية وكانوا ولا يزالون طرفا أساسيا في الحكم.
(4) احمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج 5، ص 129، الدار التونسية للنشر، 1990.
(5)الاتحاف، ج 5، ص 44.
(6)الإتحاف، ج 5، ص 122.
(7) Chérif M.-H. Les mouvements paysans dans la Tunisie du XIXe siècle. In: Revue de l’Occident musulman et de la Méditerranée, N°30, 1980, p 24-25.
(8) الاتحاف، ج 8، ص 185، زكايط، مفردها زكطي: لئيم، خبيث، شرير.
(9) الاتحاف، ج 5، ص 129.
(10)الاتحاف، ج 5، ث 148.
(11) محمد الهادي الشريف، ذكر سابقا.
(12) صدر القرار القاضي بتشكيل اللجنة المالية الدولية في 5 جويلية 1869 وهي تمثل مصالح كبار مقرضي الدولة التونسية وتسهر على التصرف في المالية العمومية بما يضمن مصالح الدائنين وتتركب من ممثلين عن فرنسا وانقلترا وإيطاليا وترأسها المملوك خيرالدين باشا التونسي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire